المسرى .. متابعة
يعد الجلوة نظامٌ قبليُ، يطبق غالباً في المناطق الريفية بعموم العراق، في وقائع القتل عادة، وقد يتعدى ذلك إلى جرائم السرقة.
ويقضي برحيل ذوي الجاني وأقربائه حتى الدرجة الخامسة في بعض الأحيان من مناطق سكناهم، لمدة قد تتراوح بين خمسة إلى عشر سنوات أو أكثر بحسب العرف العشائري.
يجبر حكم الجلوة العائلة الى المغادرة مجدداً والعودة إلى المخيم الذي أتوا منه فلم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه.
تمتد جذور الجلوة التاريخية الى أيام البدو والأعراب بحسب بعض المؤرخين، وظل يُطبق حتى يومنا هذا في العديد من الدول العربية كالعراق والأردن. غير أن الأخيرة حاولت تقليل الضرر لأقصى حد ممكن وذلك بتقنينها له ضمن وثيقة صدرت في 2021 ونصت على “اقتصار تطبيق الجلوة على القضايا العشائرية وهي (القتل) وأن المشمولين بالجلوة هم فقط (القاتل، والد القاتل، أبناء القاتل) من الذكور فقط لا غير. وتقلصت مُدة الجلوة الى سنة واحدة قابلة للتجديد حسب ظروف القضية التي يقررها الحاكم الإداري والمجلس الأمني في المحافظة”.
في حين أن مجلس النواب العراقي لم يسن بعد قانوناً يحد من تطبيق الجلوة على الرغم من وجود دائرة معنية بشؤون العشائر تابعة لجهاز الامن الوطني، يفترض بها أن تعالج هذه الأعراف العشائرية كما الصراعات لتقوية بنية الدولة وضمان سيادة القانون.
يشير جواد كاظم الجرياوي أحد وجهاء عشيرة الجرياوي في الفرات الأوسط، إلى أن الجلوة العشائرية يقتصر تطبيقها على جرائم القتل فقط لدى معظم العشائر، ويتم إيقاعها بعد أسبوع واحد من حدوث الجريمة، درءاً للفتنة وحقناً للدماء “اذ تمنع الجلوة المطالبة بالثأر، وتضع حداً نهائيا للمشكلة”.
ولا توجد اتفاقية للعشائر العراقية حددت بها مدة معينة للجلوة أو آلية معينة لتطبيقها، إذ أن ذلك مرهون بالعرف، وتختلف المدة من عشيرة إلى أخرى، والشائع هو سبع سنوات، وفقاً للجرياوي.
ويبين في حديثه تابعه المسرى ” قد تُقلص المدة إذا كان القاتل أحد أقارب المقتول من الدرجة الأولى أو الثانية ويتم ذلك بالاتفاق، أما إذا كان القاتل من عشيرة أخرى فيترك وأهله المكان بعد دفع الدية مع تحديد مدة أو بدون تحديدها ولهم أن يبيعوا أراضيهم ومنازلهم متى شاؤوا”.
أغلب الذين يشملهم حكم الجلوة حسبما يذكر، هم سكان المناطق الريفية الذين يعتاشون على بيع محاصيلهم الزراعية “لذا فمن المغالاة حرق أراضيهم وأملاكهم أو حرمانهم من استغلالها أو التصرف بها”.
ومع أن القانون العراقي يخلو من نصوص تعالج مسألة الجلوة بحد ذاتها، كما هو الحال بالنسبة للعرف العشائري العراقي، لكن أحكام القوانين تنطبق على الممارسات التي تجري تحت عنوان الجلوة كاستغلال الأموال الخاصة أو الاستيلاء عليها وأعمال العنف التي تصاحبها.
ويؤكد الحقوقي حيدر الربيعي، بأن القانون العراقي لا يعد الثأر كدافع للقتل ظرفاً مخففاً، ويخضع القاتل فيها لأحكام المادة 405 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بالتالي يعد ما فعله قتلاً مع سبق الإصرار والترصد والتي تصل فيها العقوبة إلى الإعدام ، وأن العقوبة تتحول إلى السجن المؤبد وفقاً للمادة 405 من ذات القانون إذا حدث فعل الثأر أثناء واقعة القتل وليس بعدها، كأن يقتل أحدهم قاتل أخيه في ذات وقت ومكان الجريمة.
ويصاحب إيقاع فرض الجلوة عادة فرض دية عن القتل قد تصل الى مليارات الدنانير وأيضاً ما تعرف بـ(الفصليات) أي بتقديم عائلة أو أقرباء الجاني نساءً كزوجات لعائلة أو أقرباء المجني عليه لفض الخصوم.
يؤكد الضابط المتقاعد من قسم شؤون العشائر التابع لمديرية الامن الوطني بشير بدر أنه لم يشهد خلال مسيرته المهنية تدخلاً للدولة في حل نزاعات الجلوة العشائرية وإرجاع المجليين الى مناطقهم ويعزو ذلك الى عدم وجود نص قانوني يحكم هذه الممارسات.
يضيف بدر “حتى وان أخذ القانون مجراه بحق الجاني تبقى الأعراف والاحكام العشائرية سارية في معظم الحالات فنجد أن القاتل مثلاً قد صدر بحقه حكمٌ بالإعدام وأهله مرغمون على دفع الدية وترك المكان حفاظاً على حياتهم”.
وخلافاً لما يشاع بان نظام الجلوة لم يكن مفعلاً في عهد النظام العراقي السابق قبل 2003، يقول (عباس.فـ) (37 سنة) والذي يعمل في مهنة الحدادة، وخضع منذ 25 عاما مع عائلته لحكم الجلوة، أنه متبع في العراق في مختلف الأزمنة ولم تقدر أي من الأنظمة المتعاقبة على وقفه، لأنه “جزء من تقاليد وأعراف البلاد ذات الطابع القبلي في معظم أجزائه”.
القاتل والمقتول، كانا ابنا عمين لوالده، وهكذا شُملت عائلته بالجلوة لتنتقل من قضاء الرفاعي التابع لمحافظة ذي قار إلى منطقة قلعة سكر 100 كم عن مدينة الناصرية مركز المحافظة.
يلتقط من ذاكرته احداث تلك الأيام حين كان صبياً “تركنا أرضنا ومواشينا ورحلنا. مازلت أذكر كيف بكت جدتي حين أخبرونا بأن علينا الخروج فقط بالملابس التي علينا ونترك كل شيء نملكه”.
يبين الشيخ محمد الزهيري، وهو رجل دين وطالب في الحوزة العلمية بالنجف، بأن الجلوة العشائرية لم تُجوَّز سابقاً من أي مرجع ديني، بل على العكس تماماً، فإن القاتل في الدين ليس عليه سوى الدية.
ويقول في حديث تابعه المسرى ” تتنافى هذه الأعراف تنافياً تاماً مع الدين الإسلامي وتخرج في الغالب عن المعقول فالقاتل إما أن يدفع ديةً محددة أو يأخذ القانون مجراه بحقه دون الحاق أذىً بذويه واقاربه ولا يجوز اجبار أحد على ترك مسكنه بما فيهم القاتل إن دفع الدية أو اتخذت بحقه الاجراءات القانونية”.
وفي إطار القانون، تبين الحقوقية والناشطة في مجال حقوق الانسان هناء ادور أن الجلوة العشائرية تعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان وعدم معالجتها يعتبر مخالفاً للمادة 43-ثانياً من الدستور العراقي التي تنص على “تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع، وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان”.
وتشدد ادور على ان ترك هذه الظاهرة دون علاج هو مؤشر واضح لضعف السلطة التنفيذية في الدولة وهذا ما يساهم في زعزعة السلم المجتمعي ويتيح الفرصة لارتكاب جرائم إرهابية تحت غطاء عشائري.
وعلى الرغم من ان مجلس القضاء الأعلى اتخذ في 2018 موقفاً حازماً من بعض الاحكام العشائرية التي تسبب رعباً وتهدد السلم المجتمعي باعتبارها عملاً ارهابياً ويعاقب مرتكبها وفق قانون مكافحة الإرهاب لعام 2015، إلا انه لم يتطرق الى الجلوة العشائرية بشكل صريح ولم يصدر أي قرار بخصوصها.