المسرى .. متابعات
طوال أشهر الصيف والخريف الممتدة بين حزيران وكانون 2022، كان المشهد المتكرر في أهوار جنوبي العراق هو عوائل تجمع ما تملكه في موطنها الأصلي وهي تودعه، منطلقة في سيارات صغيرة بحثا عن موطن آخر يضمن لهم فرص عمل “فالعوائل لم تعد تحتمل”.
السلطات الحكومية، التي تقر بالمشكلة وتنبه لخطورة نتائجها خاصة على هجرة سكان الأهوار، تقول في الوقت ذاته إن مشكلة الجفاف ليست محلية، فهي مرتبطة بالجفاف وقلة تساقط الأمطار من جهة وخفض إمدادات المياه القادمة من تركيا وإيران من جهة ثانية.
ويقر مسؤولون حكوميون بأن ذلك الواقع خلق مشاكل كبيرة، وفي مقدمتها رفع أعداد العاطلين عن العمل خاصة من صيادي الأسماك في منطقة تعاني أصلا من ندرة فرص العمل ومن معدلات فقر هي الأعلى في العراق وتصل الى 30%. اذ تم تسجيل ألفي صائد للأسماك تركوا هذه المهنة، بحسب مدير زراعة ذي قار صالح هادي.
من جانبه حذر وزير البيئة جاسم حمادي من أن العراق سيسجل 100 يوم من العواصف الغبارية مختلفة الشدة خلال العام وهي مرشحة للزيادة، مبينا أن خسائر الحكومة تتجاوز العشرة مليارات دينار، فضلا عن تسجيله خسارة 100 ألف دونم من الأراضي الزراعية بشكل سنوي بسبب الجفاف.
ويقول حمادي إن النقص الحالي الحاصل في المياه لم يصله العراق منذ اكثر من 70 عاما والعجز المائي سيصل الى 11 مليار متر مكعب في عام 2035 .”
ويضيف أن هناك 13 مليون عراقي من القرويين يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي وهناك احتمال كبير بأن يخسروا عملهم بسبب التغييرات المناخية والجفاف الذي يهدد بخسارة أراضيهم مما يدفعهم نحو الهجرة الى المدن.
ويعد العراق الذي يتجاوز عدد سكانه 41 مليون نسمة خامس اكثر دولة في العالم تأثرت بموضوع التغييرات المناخية من التلوث والتصحر والجفاف والعواصف الغبارية وتناقص الايرادات المائية.
و تعاني مناطق أهوار ذي قار من تراجع بمنسوب مياه الأنهر المغذية لها حتى بلغت المساحات الجافة مستويات غير مسبوقة تاريخيا.
ينبه جاسم الأسدي، الخبير المائي ومسؤول منظمة “طبيعة العراق”المعنية بأوضاع أهوار جنوبي البلاد، إلى خطورة ما يحصل لأهوار العراق ولسكانها، مؤكدا أن الأهوار باتت مهددة بالاختفاء تماما.
ويوضح الأسدي أن مساحة الأهوار المخطط لإغمارها بالمياه وفق رؤية مركز “انعاش الاهوار” التابع لوزارة الموارد المائية، كانت تبلغ 5560 كيلو متر مربع، ووصلت نسب الاغمار فعليا في العام 2019 الى 98% من اجمالي المساحة المخطط لإغمارها “لكن في خريف العام 2022 اصبح الأمر معكوسا فـ98% من هذه المساحة باتت جافة أي ان اكثر من 5400 كيلو متر مربع جفت بالكامل وما بقي من مياه هو في الجداول والأنهار الضيقة”.
وفق ذلك كما يقول “بات الدخل المالي لمربي الجاموس محدودا ويدخلهم ذلك ضمن شريحة الفقراء ليلتحقوا بالصيادين”، منبها إلى أن البلاد تسير نحو الأخطر “فكميات المياه الموجودة في السدود تدهورت بشكل كبير، اذ فقدت 21 مليار متر مكعب من حزيران 2021 وحتى حزيران 2022 لذا فالعراق يعيش تحت رحمة دول الجوار”.
ويقول حسام عبد قائممقام الجبايش، وهي منطقة تشتهر بأهوارها، بأن اكثر من 8 آلاف رأس جاموس نقلها أصحابها الى مناطق اخرى لانقاذها.
ويقدر مختصون ما تضمه مناطق الأهوار بقرابة 33 ألف رأس جاموس، أي أن من بين كل عشرة رؤوس من الجاموس هناك ثلاثة تعرضت للهلاك أو نقلت لمناطق اخرى، بنسبة بلغت 33% من المجموع الكلي للجواميس في الأهوار.
حلول حكومية خجولة
الحلول الحكومية غائبة تماما، ولا يمكن لإجراءات بسيطة كتنظيف الأنهر والجداول المائية ورفع الترسبات الطينية المؤدية إلى الأهوار، من إقناع السكان بعدم الهجرة من مناطقهم أو خلق نوع من الاطمئنان لهم بإمكانية أن تشكل حلا يديم معيشتهم.
يقول علاوي حيدر، وهو شاب من سكنة الأهوار، اقنع عائلته أخيرا بالنزوح إلى الناصرية: “نعم تنظيف الأنهر من الترسبات لتسهيل إيصال الاطلاقات المائية التي تندفع من نهري الفرات والغراف الى الأهوار والتي تصل بشكل تتابعي، لكنها ليست حلا أبدا في ظل قلة المياه في تلك الأنهر أصلا”.
ولم تشهد ذي قار منذ سنوات موسما مطريا جيدا من شأنه يعوض ولو جزءا قليلا من كميات المياه التي جفت بفعل الحرارة او ترسبت الى أعماق الأرض الجافة العطشة.
في الأثناء يؤكد مدير الأنواء الجوية في الناصرية علي طارق، أن عامي 2020 و2021 شهدا تسجيل معدلات مطرية قليلة جدا، ولم يصل مستوى الامطار المتساقطة إلى 31 ملم، وهذا المنسوب لم تسجله المحافظة خلال الخمسين عاما الماضية، وهذا متأتٍ بفعل التغييرات المناخية التي ضربت العديد من بلدان العام ومنها العراق.
وأطلقت الأمم المتحدة في حزيران الماضي، تحذيرا من أن العراق سيواجه تحديات كبيرة ومتفاقمة ناجمة عن التغييرات المناخية ومنها موجات الحر وانخفاض معدل هطول الأمطار وفقدان الأراضي لخصوبتها وارتفاع ملوحة الأرض.
تضاف الى جملة التحديات تلك عدم كفاية الاستثمارات في البنية التحتية ونقص المياه العابرة للحدود، وانتشار العواصف الترابية.
ودعت الأمم المتحدة العراق إلى العمل سريعا واتخاذ إجراءات لحماية البلد من الآثار المدمرة للجفاف، وحذرت من أن البلد هو واحد من بين الدول الخمسة الاولى الأكثر تضررا من التغييرات المناخية وهو في المرتبة الثالثة من بين الدول التسع الأكثر إجهادا للمياه مع انخفاض قياسي بمعدل سقوط الأمطار في العام الماضي 2021 ليكون ثاني أكثر موسم جفاف منذ 40 عاما.
وأوضحت دراسة استقصائية، أجريت العام 2021 وشملت سبع محافظات عراقية، بحسب رؤية الأمم المتحدة، فان 37 بالمئة من مزارعي القمح و30 بالمئة من مزارعي الشعير، يعانون من فشل المحاصيل بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد. ولم يشمل فشل عمليات الحصاد لنسبة كبيرة من الحقول الزراعية وسط وجنوب العراق فقط بل حتى في محافظات دهوك وأربيل التي عادة ما تسجل معدلات مطرية أفضل.
وأدى الجفاف الذي عانت منه دول الشرق الأوسط عموما، إلى انخفاض غير مسبوق في الإيرادات والمدخلات المائية القادمة من تركيا بشكل خاص والتي تنتهي في أهوار العراق بعد أن يتم صرف الكميات الأكبر منها لسد حاجة السكان في المدن الكبرى واحتياجات الزراعة في شمال ووسط البلاد.
ويرى عضو مجلس النواب داخل راضي، أن تعامل وزارة الخارجية العراقية اتجاه الملف المائي لم يحظ بالأهمية المطلوبة ولم يتم العمل على تدويله أو المطالبة بحصص العراق العادلة من المياه في الأنهار المشتركة، وهو ما أدى إلى استفحال حالة الجفاف وتضرر الأهالي الساكنين بمناطق الاهوار، فهم الأكثر تضررا مقارنة ببقية المناطق.