الكاتب.. رياض الفرطوسي
يقول الكاتب الفرنسي “ايتيان دي لابويسيه في كتابه العبودية المختارة : عندما يتعرض مجتمع لقمع طويل تنشأ اجيال من هذا المجتمع لا تحتاج الى حرية وتصبح منسجمة مع الاستبداد ويظهر فيها ما يسمى بالمواطن المستقر”. هذا الكائن المستقر تربى على العبودية التي قدمت له على شكل تعاليم وقوانين وقواعد ومناهج ثابتة. الكتاب يستعرض فكرة الشعوب التي تتعرض الى استبداد وقمع وذل وخضوع طويل هذه الشعوب تصبح قادرة على خلق طغاة جدد وقد تتمظهر هذه المشكلة على مستوى سياسي وثقافي واجتماعي ومرد ذلك يرجع لمستوى الوعي وكانت من نتائجه التخلي عن الحرية. ففقد المجتمع السيطرة على مصيرة .الذين ادمنوا على المصائب والكوارث والقمع حتى تحولت تلك المظاهر مع الوقت الى عبودية متوارثة تاخذ مظاهر اجتماعية مختلفة حتى اصبحت تقاليد مجتمعية ومن الصعوبة بمكان تغيير هذه المفاهيم والقناعات لانها اسست في لاوعي تلك الشعوب وتحولت الى جزءا من نسيجها العضوي.وصل الكثير من هؤلاء الى دول الحداثة والحرية في اوربا لكنهم سرعان ما اصطدموا مع فكرة التعايش مع ثقافة جديدة وحديثة ومجتمعات منفتحة ومتصالحة مع ذاتها. عاشوا حالة من الشقاء والبؤس والانشطار والتناقض. كل شي مختلف عن عوالمهم الاساسية ( سلوكياتهم ومعاييرهم ) لا تصلح ان تنسجم مع تلك الشعوب . ولم يستطيعوا التخلص من فكرة الاكراه والزجر والفرض بل ان تزمتهم جعلهم يعتقدون ان العبودية شكل من اشكال الاخلاق والالتزام والسعادة. فتحول التلقين والتدجين والامتثال والخضوع الاستسلام الى ثقافة عامة في حياتهم. هذه الشخصية المستقرة والمتنازلة عن كل حقوقها بما في ذلك شروط الحياة الطبيعية التي تتعلق بكرامته ومصيره ومستقبله يمضي في اتجاه واحد وهو ما يمثل تلك المجتمعات القمعية التي تقتل كل انواع الحياة في الانسان وتجعله يعيش في قوالب جاهزة . لم يصل هذا الانسان المستقر الذي يشبه الصخرة لتلك الحالة من دون ان يكون قد مر بمراحل متعددة وكثيرة حتى وصل لتلك الحالة من الخدر الذهني والسلوكي في وعيه . لذلك تجده كثير التبجح والاستعراض والظهور ويؤمن بالكلايش الجاهزة. الانسان المستقر لا يحتاج الى الحرية لانه يعيش في مناحة تاريخية طويلة.الكارثة ان هذا الانسان الذي ضيع حياته بالوهم عندما يقسم يقول ( وداعة حياتي ) وكأن هذه الحياة التي قضاها بالخيبات والحروب والفواجع والسجون والامراض تعتبر حياة . يراد لهذا الانسان ان يبقى يعيش في دوامات من الظلام والمتاهة حتى تتحطم القيم والمعايير ويبقى هو ذلك الانسان المستقر والمقهور والخاضع والصامت كعنوان لانساننا الراهن .عندما يتعود هذا الانسان ان يكون بلا قيمة لنفسه تصبح حياته مرهونة بالظروف التي حوله. لا يعود يبالي ان سرقوا منه ماله او مستقبله لانه قد تعود ان لا يملك اي شي فتجده لا يتذمر و لا يعترض ولا يطالب بحقوقه وهذا ما يسمى بالتطبع على العبودية الطوعية. لذلك لم يعد يهتم هذا الانسان المستقر الا بالدين وكرة القدم ولقمة العيش كما يقول ايتيان دي لابويسيه . بل يدافع عن كل من يستغله ويستبيح حياته لانه مجهز ومروض منذ الطفولة لهذه العملية. لذلك تجدنا سعداء مع قيودنا التي فتحنا اعيننا عليها ومع الوقت اصبحت جزءا من تركيبتنا حيث لم نستطيع ان نعيش من دون قيود او خوف. وعملية الخروج من هذه العبودية صعبة جدا بسبب المؤثرات النفسية والعاطفية والتعود على الخوف المزمن والطاعة العمياء .لا يوجد ابشع من شعور الانسان بالخوف فالانسان الخائف لا يستطيع ان يغامر او ان يحطم اغلاله. البعض يعتقد ان الحرية السياسية تحرر من العبودية لكن كيف اذا كنت مكبل ومقموع من الداخل بسلاسل من القناعات والافكار والقوالب الجاهزة والفوضى . لذلك فان الذين عاشوا في اقفاص فكرية وعبودية يعتبرون الحديث عن الحرية جريمة. وهو العنصر الاساس الذي لجم المجتمع المستقر وعرقل اي نمو طبيعي والغى لديه فكرة المراجعة والثورة على المفاهيم والقناعات الثابتة والصلبة.
نقلا عن صحيفة الدستور