المسرى :
تقرير : هناء رياض
هل القدر العظيم هو من يختار رجاله , ام ان الرجال الحق هم من يختارون اقدارهم ؟
ذلك سؤال جوهري في قصة حارث السوداني , الشاب البغدادي الذي قادته قدميه ليكون جاسوسا لصالح جهاز المخابرات العراقية ضمن صفوف اخطر تنظيم ارهابي (داعش )
شباب طائش واندفاع دون هدف
كان حارث شابا تائها لايستطيع توجيه بوصلته نحو المستقبل , لم يكن يملك اي هدف او طموح , كان يقضي ايامه بعبثية الشباب , ولطالما ماكان ذلك سببا بتعكير علاقته مع والده السيد عابد السوداني والذي كان رجل ملتزم متزمت بتربية ابنائه وكان دائما ما يحث حارث على الانضباط , حتى هدده ذات يوم بطرده من البيت او الالتزام بعمل محترم والبدء بالتفكير بأنشاء عائلة .. كانت تلك نقطة حرجة في حياة حارث , حسب مايصف شقيقه منذر , مضيفا ان حارث كان يائسا لانه لم يكن يملك هدفا في الحياة ..
رحلة الزواج والدراسة
استقر حارث بزواج تقليدي مدبر وعاد بعدها الى صفوف الدراسة , حيث اكمل دراسة اللغة الانكليزية ومن ثم الروسية وتولى انظمة عمل في مجال البنية التحتية للنفط في العراق …
في ذلك الوقت كانت الهجمات الارهابية برعاية تنظيم داعش تمزق العراق , وبينما كانت قوات التحالف والحكومة العراقية تكافح لمحاربة الارهاب , كان هناك مجموعة من شباب الداخلية يرومون انشاء وحدة استخبارية خاصة مهمتها استهداف قيادات داعش , لذا فقد عمدت الى تجنيد 16 عنصرا من وحدات النخبة العسكرية واكاديمية الشرطة اطلق عليها اسم خلية الصقور ..
لعبة القدر
كان القدر يبحث عن حارث او حارث هو من كان يبحث عن القدر .. فقد صادف ان مناف وهو الشقيق الثاني لحارث من اوائل المجندين في تلك الخلية , فبينما كان حارث يشتكي الملل من عمله الروتيني وقضاء اغلب الامسيات بالعاب الفيديو او التسكع في مقاهي العاصمة مع الاصدقاء , كان مناف يحاول اقناعه بالتقديم على درجة وظيفية في تلك الخلية واستغلال مهاراته في اللغة الانكليزية والكومبيوتر. وبالفعل اقتنع حارث وقدم طلبه لنيل الوظيفة ..
في عام 2013 كان حارث يعمل في مراقبة حركة المرور على شبكة الانترنيت ومراقبة المكالمات الهاتفية للمشتبهين من الارهابيين . تلك الوظيفة جعلته متحمسا لحياته لاول مرة , لقد كان سعيدا جدا بتلك الوظيفة حسب ما يؤكد شقيقه مناف …
دخول التنظيم الارهابي
في عام 2014 استطاع داعش ان يستولي على اراض عراقية عديدة ويمد نفوذه بقوة الى داخل الدولة وكبد المنطقة خسائر كبيرة بالارواح . هنا حددت خلية الصقور مهمتها باختراق التنظيم عبر العناصر السرية ..
كان السوداني هو اول المتطوعين لتلك المهمة , يقول قائده الجنرال سعد الفالح : ان الدافع وراء تطوع حارث السوداني هو صور الاطفال الذين قتلوا في هجمات داعش , مضيفا كيف لا وهو اب لثلاثة من الابناء الصغار …
لم يكن لاحد ان يتخيل السوداني وهو جاسوس متسلل في جحور اخطر تنظيم ارهابي , فلم تكن تبدو عليه الجراة والاندفاع والمخاطرة , لكن ما لم يكن يعرفه احد ان حارث كان يبحث عن نفسه , كان ينتظر الفرصة ليحقق ذاته كان يريد هدفا عميقا لحياته .. وربما كانت هذه الفرصة الاهم لان هدفها هو انقاذ وطن ..
بدأت حياة حارث فصلا جديد .. تمت ترقيته الى نقيب وبدأ التدريب لتمريره بين صفوف داعش كجهادي …
تدريب على الصلاة والهتافات الدينية
كان اتقانه لهجة المناطق الغربية والتي كان داعش يسيطر عليها قد ساعده كثيرا في اتقان الدور , فقد كانت عائلة السوداني تعيش في الرمادي ايام النظام السابق , بينما كان ينقصه الاطلاع على منطق الدواعش وطريقة تفكيرهم, لجأ لحفظ الايات القرانية التي كان يعتمدها الدواعش في تبرير هجومهم على الابرياء زورا وبهتانا , تدرب كثيرا على طريقة صلاتهم كي لايخطأ , مارس هتافاتهم الاف المرات قبل ان يتوجه لنقطة انطلاقه اليهم ..
في ليلة من ليالي ايلول وقبل بدء مهمته بيوم جلس مع اخيه مناف لشرب الشاي , كان الصمت يسود بينهما ولايسمع غير صوت الجراد الذي ملأ الارجاء .. يقول مناف .كنا قلقين كثيرا , كان الامر خطرا جدا خصوصا انه كان اول من تطوع لمثل هذه المهمة …
كسب الثقة وبدء التدريبات القتالية
في صباح اليوم التالي , تسلل السوداني الى احد مساجد الطارمية والذي كان يستخدمه التنظيم لعقد اجتماعاته فيه , يقول مناف , لقد قضى النهار بأكمله في ذلك المسجد اكثر من الوقت المقرر له , كنا نراقب بحذر وكنت متخوفا من ان شيئا ما قد حدث لاخي .
الا ان ما حصل هو العكس , فقد تبين ان المجموعة قد رحبت به وسرعان ماضمته اليها , بات يعرف بأبي صهيب , كرجل عاطل عن العمل من احد احياء الطارمية .. بعد ايام عمد عناصر التنظيم لتحفيظ السوداني العديد من الفتاوى والتعاليم الدينية التي فسروها على انها تبيح قتل الاخر .. بمرور الوقت تم تدريبه على نصب المتفجرات …
وهكذا فأن السوداني قد نال ثقة عناصر التنظيم الارهابي خلال ايام معدودة , بعد اسابيع قليلة , اتصل به مسؤول في التنظيم من الموصل , وكلف السوداني بدور لوجستي مهم في سلسلة تفجيرات انتحارية في بغداد , واخبره ضرورة تجاوز نقاط التفتيش في ضواحي العاصمة للوصول الى النقاط المطلوبة ..
التواصل بسرية تامة مع الصقور
خلال المكالمات الهاتفية التي كانت ترده من الموصل كان يتلقى توجيهات عن النقاط التي يلتقي بها مع الانتحاريين الواصلين الى الطارمية لتسلم السيارات المفخخة منهم والتوجه بها الى بغداد .. كان في كل مرة وعلى الطريق يقوم السوداني بالتواصل مع خلية الصقور لتنفيذ مهامهم في اعتراضه وتفريغ الحمولة قبل وصولها الى النقاط المحددة لها .. وبذا فقد كان رفاقه من خلية الصقور يوجهونه الى المكان الذي يمكنهم فيه تعطيل المتفجرات , وبعد ذلك يقوم عناصر الخلية بتنفيذ انفجارات وهمية وييسربون اخبارا مزيفة عن وقوع عدد من القتلى والخسائر المادية كتغطية على عمل السوداني ..
ضغوط أثرت على صحته وعائلته
كانت المهام المشابهة تتكرر بين فترة واخرى , وكلما كانت هناك مهمة انتحارية جديدة كلما كان الكشف عن حقيقة السوداني لدى داعش اقرب واكثر احتمالية , كانت تلك ضغوط اثرت بشكل كبير على صحة السوداني حتى انه بدأ يشتكي من نوبات الم في الصدر تعيقه عن التنفس لدقائق .. يقول شقيقه مناف في ذلك الامر .. تخيل انك سائق لشاحنه تحمل 300كيلو غرام من المتفجرات , ماذا يمكن ان يدور بمخيلتك وانت تعلم انه من الممكن ان تنفجر في اي لحظة ….
على الجانب الاخر كان غيابه المتكرر عن البيت يثير الشكوك في قلب زوجته , كان والده يعرف واخويه يعرفون سبب تغيب حارث , لكن من غير الممكن ان يخبرو زوجته بالسبب رغم انهم كانو يتوقون لذلك وهم يرونها تعاني مع اطفالها الثلاث بسبب تغيب الاب غير المبرر ..
تقول رغد شلهوب : مع الاسف انه لم يخبرني بذلك , بالتاكيد كان يخشى علي من القلق , فاي امراة لن تتقبل ان يكبر ابناءها ريام وروان ومؤمل دون اب ؟
على مدى ستة عشر شهرا كان حارث يعمل جاسوسا لوكالة المخابرات الوطنية العراقية , استطاع خلالها من احباط 30 هجوما بسيارات مفخخة والقاء القبض على 18 ارهابيا ..
بحلول منتصف عام 2016 كان هناك تفاؤل متزايد بشأن هزيمة التنظيم . الا ان العمليات الهجومية ازدادت وتيرتها ايضا , ما عكس ذلك على ازدياد المهام الملقاة على عاتق السوداني , فطلبوا منه استكشاف الاحياء والمقاهي في بغداد ليحددو اهداف الهجمات المقبلة ,
تخوف واصرار على المواصلة
في احدى تلك المهام حاول السوداني التسلل لبيت عائلته للأطمئنان عليهم ورؤيتهم , وفي تلك الاثناء اتصل به المسؤول عنه في تنظيم داعش مطالبا بمعرفة مكانه , اجابه السوداني بأنه في الحي المستهدف , الا ان القائد اكد له انه يكذب وان احداثيات الgbs لهاتفه تقول غير ذلك . كانت تلك الحادثة هي اول اشارة حمراء حول السوداني .. حينها اخبره شقيقه مناف ان عليه التوقف وانهاء المهمة , الا ان حارث رفض ذلك …
كان التنظيم يصارع في سوريا للحفاظ على سيطرته في بعض الاراضي ولذا فأن تمسكهم بأراضي الموصل وبعض المناطق الغربية في العراق ازداد اصرارا ..
في اخر يوم من شهر كانون الاول تلقى السوداني اتصالا من قائد التنظيم في الموصل ليخبره بأنه تم اختياره لتنفيذ مهمة هجومية ضمن مجموعة من التفجيرات المنسقة في مدن متعددة حول العالم …
نجحت المهمة .. ولكن
كانت المهمة ان يتسلم السوداني سيارة كيا محملة ب 1100 كيلو غرام من المتفجرات والانطلاق بها شرق بغداد , وهذا ماكان ..
على الطريق اتصل السوداني وكالمعتاد بخلية الصقور لمناقشة مكان الاعتراض وتفريغ الحمولة , ولذا فقد انحرف عن الطريق المحدد للوصول الى الوجهة التي حددها للقاء زملائه , في تلك الاثناء اتصل به قائد الموصل يسأله عن نقطة تواجده بالتحديد , اجاب السوداني بأنه في طريقه للهدف , رد المسؤول بانه يكذب , ارتبك النقيب حارث واعتذر بأنه قد يكون أخطأ الهدف واتخذ منعطفا آخر .. عاود الاتصال بزملائه الصقور واكد لهم ان اللقاء يجب ان يكون في نقطة قريبة من هدف التفجير ..
كان الهدف هو شارع بغداد الجديدة في بغداد , تم تحديد نقطة الالتقاء وتم تفريغ الحمولة وازالة المفجر الالكتروني , و26 كيسا من مادة ال c4 ونترات الامونيوم .. وهكذا توجه النقيب السوداني بالسيارة لنقطة الهدف وتم تفجيرها بعد التأكد من عدم اقتراب المدنيين منها , في تلك الليلة وقبيل منتصف ليلة رأس السنة اعلن عن انفجار سيارة كيا بيضاء دون وقوع اصابات ..
كانت مهمة النقيب السوداني ناحجة , الا انه ما لم يكن يعرفه احد ان التنظيم زرع اجهزة تنصت داخل السيارة وقامو بالاستماع لحديثه كاملا مع زملائه الصقور …
بداية النهاية
في اوائل العام 2017 اتصل التنظيم بالنقيب السوداني لمهمة ستكون الاخيرة ..
حذره شقيقه مناف من عدم المخاطرة , خصوصا وان شكوكا تدور حوله , الا ان السوداني قرر المخاطرة وعدم التوقف , تم ارساله لمزرعة خارج الطارمية , كان مكانا بعيدا عن المراقبة , يصعب الهروب منه ..
يقول مناف , لا اتخيل انه كان يثق بهم , مستدركا انه كان مدفوعا بفعل الفخر بنفسه وطموحه لنكون فخورين به ..
في صباح يوم ال 17 من كانون الثاني دخل النقيب السوداني المزرعة فطال غيابه فيها ..
اتصل فريق الصقور بشقيقه مناف للتاكيد على ان هناك شيء ما يثير الشكوك والقلق .. قام مناف بالاتصال بابيه ليخبره بما جرى , انهار الاب لحظتها وتوسل بأبنه مناف لفعل شيء ما لانقاذ شقيقه , يقول مناف لم يصدف اني رأيت ابي يبكي سابقا,, او ضعيفا ..
كانت الطارمية معقلا للتنظيم الارهابي , ولم يكن الدخول اليها مهيأ للقوات الحكومية , استغرق التخطيط لشن عملية اقتحامية ثلاثة ايام , حيث داهمت قوة مشتركة من الجيش والشرطة المزرعة وقتل اثناء المداهمة شرطي عراقي .. تم تطهير المبنى ولم تكن هناك اي علامة على تواجد النقيب السوداني داخلها ..
لا شهادة وفاة رغم الاستشهاد
اختفى السوداني دون اثر مدة ثمانية اشهر كاملة , رجح المتخصصون في خلية الصقور ان الدواعش اخذوا النقيب الى القائم ..
في آب قام التنظيم بنشر مقطع فيديو يظهر مسلحين وهم يطلقون النار على اربعة من السجناء معصوبي الاعين , اكد افراد الخلية ان السوداني كان من بينهم ..
سطر السوداني ملحمة غير معتادة في البطولة والايثار … اصدرت قيادة العمليات المشتركة بيانا حول تضحية السوداني , وعلقت صورته بحجم كبير امام بيت عائلته , التي مازالت تكافح لأستحصال التقدير الذي يستحقه السوداني وعائلته واطفاله , فمازالت شهادة الوفاة لم تصدر من الجهات الحكومية التي تعتبر ان وجود الجثة شرطا اساسيا في استخراجها وهو كذلك شرط مسبق للحصول على الاعانات والحقوق المادية …
وبعد تطهير المحافظات العراقية من سيطرة داعش مازال البحث عن جثة النقيب الشهيد السوداني قائما حتى اليوم دون اثر يذكر …
وهكذا كانت نهاية الجزء الاول من حياة السوداني , النقيب الشاب , الذي حمل روحه على راحتيه وتسلل بها الى صفوف اخطر تنظيم ارهابي عرفته البشرية …
اما الجزء الثاني من حياته فهو ما زرعه في قلوب كل شخص يسمع عن تلك البطولة ويعيش لحظات مذهولا بروعتها ..