المسرى .. فؤاد عبد الله
في أقصى جنوب العراق، رئة البلاد الاقتصادية، محافظة البصرة تعيش أزمات كثيرة كغيرها من البلاد، كأزمة الكهرباء والماء والمجاري ونقص الخدمات والبطالة وتفشي الأمراض، المدينة تعتمد على مياه شط العرب بنسبة كبيرة جدًا للشرب والزرعة وتربية المواشي، لا بل هو المورد الرئيسي لها كما يراه المختصون، ولكن في السنوات الأخيرة، بدأ هذا الشريان المائي للمحافظة بالانحسار، ومعه ازدادت نسبة ملوحة شط العرب، وأصبحت تهدد حتى حياة الكائنات التي تعيش فيه.
والمسرى كعادتها مستمرة بفتح ومتابعة، أبرز الملفات الحساسة في البلاد ، والكشف عن أسبابها وخيوطها، وهذه المرة ستتوقف عند أزمة ازدياد درجات الملوحة في مياه محافظة البصرة.
500 درجة
وفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية، يجب ألا تزيد نسبة الملوحة في مياه الشرب عن 500 درجة من مقياس TDS، في حين تتعدّى الملوحة في البصرة أضعاف هذا الرقم وتجاوزت الألف درجة، وبحسب المراقبين والمختصين، وصلت نسبة ملوحة شط العرب إلى 65% ، وما تبقى أصبح غير صالحاً للاستخدام البشري والحيواني.
قلة الخدمات
ويعاني مواطنو البصرة من قلة الخدمات في محافظتهم، وعلى رأسها مشكلة ملوحة المياه التي بدأت تتصاعد، مطالبين الحكومتين الاتحادية والمحلية بإيجاد حل لها، لأن المياه التي يتم تجهيزهم بها من قبل محطات الإسالة، تعتبر مياهاً غير صالحة للاستخدام البشري وتسبب أمراضاً جلدية، مؤكدين أن اغلب العوائل تشتري المياه العذبة بمبلغ من 10-12 الف دينار للطن الواحد،
ماء مالح
وفي هذا السياق يقول أحد مواطني منطقة البراضعية التابعة لمحافظة البصرة لـ( المسرى) إننا” نعاني جداً من مشكلة ملوحة مياه الشرب، لأن المد البحري، يأتي بالماء المالح على شط العرب، أضف إلى ذلك أن منطقتهم تتعرض إلى غبن بسبب عدم حصولهم على مستحقاتهم المائية المقررة من الماء العذب الصالح للشرب وفق نظام المراشنة، مقارنة بالمناطق الأخرى في المحافظة، وذلك بسبب الفساد والمحسوبية من قبل الجهات المعنية بتوزيع الاطلاقات المائية لمناطق محافظة البصرة”، مؤكداً أن ” استمرار هذا الغبن على منطقتهم لأكثر من 7 سنين”.، مستطرداً بالقول إن ” الماء المالح أثر كثيراً على حياتهم، وانهم يستخدمون هذا الماء المالح للسباحة والتنظيف فقط، علماً أنه بسبب استخدام هذا الماء المالح أصيب أهل المنطقة، بالكثير من الأمراض الجلدية وأمراض العيون والشعر”.
مشاكل واعطال
واوضح أن” القائمين على مشروع ماء البدعة الذي يجهز المنطقة بالماء العذب، أخبروا أهالي المنطقة أن المشروع يعاني من مشاكل عدة، مرة بحجة أعطال في الكابلات والتيار الكهربائي، ومرة بمشكلة ضخ المياه والتصريف رغم وجود مياه مخزنة فيها”، علماً أن ” المشروع يعتبر من حيث البناء والتصميم والعمل، مشروعا قديما، ويفتقر إلى الإعمار والصيانة وفق التصاميم والآليات الحديثة، رغم صرف الميزانيات والأموال لتعميره”.
غير صالح للشرب
ويعيش أكثر من أربعة ملايين مواطن محافظة البصرة، يعتمدون على بعض المحطات الحكومية واكثر من 200 محطة أهلية خاصة لتأمين مياه الشرب، وحسب قولهم، فإن مياه المحافظة مالحة ولا تصلح لا للشرب ولا للزراعة.
الإصابة بالأمراض
كما وتحدث مواطن آخر من أهالي منطقة البراضعية التابعة للمحافظة “نشكو كثيراً من أزمة الماء المالح”، نحصل على ماء الإسالة نصف ساعة، وبعده مباشرة يتحول إلى الماء المالح الغير صالح للإستخدام، حبذا لو طالت فترة التجهيز بالماء العذب ليوم كامل “، لافتاً إلى انهم” يستخدمون الماء الذي يتم تجهيزهم به من قبل المحطات لغسل الملابس والتنظيف فقط، وبالتالي أصيبوا بالأمراض الجلدية والحساسية جراء استخدامهم لهذا الماء لأغراض الاستحمام”.
محسوبية وفساد
كما وتشير إحدى مواطنات محافظة البصرة لـ( المسرى) إلى أنه” هناك محسوبية وفساد في المحافظة فيما يتعلق بتجهيز المواطنين بماء الإسالة، مناطق تحصل على ماء عذب للاستخدام، ومناطق أخرى بالعكس يتم تجهيزهم بالماء المالح غير الصالح للشرب والطبخ “، مؤكدة ” استخدامهم لهذا الماء لأغراض الاستحمام والتنظيف فقط، أما للشرب والطبخ فيقومون بشراء قناني الماء المعدنية لأجل ذلك”، مطالبة الجهات المعنية بإيجاد حل لهذه المشكلة المستعصية، لأنهم أصيبوا بالعديد من الامراض الجلدية”.
اختفاء المزروعات
ويقول أحد الكسبة والذي يمتهن في نفس الوقت حرفة الزراعة، لـ( المسرى) إن” المالح الماء أثر على زراعتنا كثيراً، قلت زراعتنا بشكل كبير، وارتفعت معها اسعار الخضروات والمزروعات التي تدخل في قائمة الطعام اليومية للمواطن البصري، منوهاً إلى ان ازدياد نسبة الملوحة في المياه أثر بشكل كبير على تقليل المساحات المخصصة للزراعة في المحافظة، أضف إلى ذلك أنه مضر حتى لغسل الخضراوات، وما موجود من خضروات في السوق، جله يأتي من المحافظات الأخرى وليس من داخل المحافظة، وكله بسبب عدم بقاء مياه عذبة صالحة للسقي والإرواء في المحافظة”.
تقصير حكومي
ومن جهته يحمل أحد علماء الدين في محافظة البصرة الحكومة المركزية ما يحصل في المحافظة، ويقول لـ( المسرى) إن” الحكومة الاتحادية هي الأب الأول، وهي من تتحمل هذا التقصير المباشر بحق ابناء البصرة”، متهماً إياها بالتلكؤ وعدم اخد مطالب أبناء البصرة على محمل الجد والفساد ، لأن الحكومة ملزمة بحكم موقعها بتقديم وتوفير الخدمات بكل انواعها من بينها الماء والكهرباء للمواطن، لأنها أبسط مستلزمات الحياة اليومية، متسائلاً إذا كان المواطن من ذوي الدخل المحدود أومن الذين يعيشون تحت خط الفقر، من أين يأتون بالأموال كل يوم لشراء قناني الماء المعدنية؟ مذكراً الحكومتين المركزية والمحلية والمعنيين بحقيقة أن مياه البصرة ليست آسنة فقط، وإنما تعتبر مياهاً مالحة وملوثة ونتنة.
حلول خجولة
وفي السياق ذاته، انتقد الإعلاميون البصريون الحلول الخجولة لمشكلة ملوحة المياه في المحافظة، كونها مشكلة تتكرر سنويا في فصل الصيف نتيجة قلة الاطلاقات المائية التي تنعكس على مياه نهر شط العرب مما يتيح الى اللسان الملحي الى الاندفاع الى مناطق شمال البصرة وصولاً الى محطات المياه التي تعتمد على مياه شط العرب.
حقل تجارب
الكاتب والصحفي البصري عماد التميمي تحدث لـ( المسرى) قائلاً إن ” البصرة أصبحت حقل تجارب للوزراء، كل الوزراء في الحكومات السابقة، أتوا بمشاريع وهمية لم تجد نفعاً، على العكس لا تزال مشكلة الملوحة وشح المياه تتجدد كل سنة في فصل الصيف، وما زيارة هؤلاء الوزراء للمحافظة إلا زيارات بروتوكولية دون جدوى.
مشكلة عقيمة
أما الإعلامي مصطفى الشمري فيرى أن ” مشكلة ملوحة مياه البصرة، هي مسألة عقيمة في المحافظة، ومن جهتها وزارة الموارد المائية في الحكومة الحالية وسابقاتها، لم تستطع لحد اليوم وضع الآليات المناسبة لكيفية معالجة مشكلة الملوحة في مياه شط العرب، مكتفية فقط ( وزارة الموارد المائية) بالتصريحات الإعلامية الخجولة لبعض الحضور من القنوات الإعلامية القريبة منهم، خوفاً من توجيه أسئلة تقوم على إحراجهم فيما يتعلق بخطط الوزارة لمعالجة مشكلة ملوحة المياه”.
تجاوزات دول الجوار
ومن جانبه أكد الإعلامي أركان عبد العال لـ( المسرى) أن ” مشكلة معالجة ملوحة مياه البصرة، تعتبر مشكلة مركبة، ووزارة الموارد المائية لم تستطع وضع الخطط المناسبة والاستراتيجية لاستغلال الثروة المائية في البلاد بالشكل المطلوب، وكذلك العمل على إيقاف تجاوزات الجانبين التركي والإيراني على( دجلة والفرات) “، منتقداً الحكومة بأنها ” كانت مقصرة وغائبة عنها إنشاء المشاريع التي تعمل على الحفاظ على هذه الثروة المهمة”، داعياً الحكومتين المركزية والمحلية بالسير وفق النهج الذي سارت عليه دول الجوار وحتى دول الخليج بهذا الخصوص، وهو قيامهم بإنشاء محطات تحلية للمياه المالحة.
حبر على ورق
أما الإعلامي فؤاد الحلفي فقال لـ( المسرى) في هذا السياق ” منذ السنوات الاخيرة ومحافظة البصرة تمر بأزمة ملوحة المياه، ومع هذا كل المعالجات التي وضعتها الجهات المعنية لحل هذه الازمة، كانت المعالجات خجولة لترضية المحافظة الاغنى اقتصادياً على مستوى البلاد، وكل التصريحات السياسية والحكومية التي أطلقت لحل هذه الازمة كانت حبراً على ورق”، مؤكداً أن ” البصرة تتعرض لكارثة بيئية خطرة جداً إذا لم يتم وضع الحلول المناسبة لهذه الأزمة، ومحطات ماء الإسالة التي أنشئت على شط العرب، ليس لديها القدرة والإمكانية على تحلية النسبة العالية من الملوحة في الموجودة في المياه”.
تحذيرات أممية
وحذرت الأمم المتحدة من أن العراق يشهد مظاهر قلة الأمطار، وتأثير ذلك يظهرعلى مناسيب نهري دجلة والفرات، بنسب تصل إلى 73 % وارتفاع درجات الحرارة إلى معدلات أسرع 7 مرات من الارتفاع العالمي، وكذلك عدم التوازن السكاني بنسبة 70 بالمئة في المناطق الحضرية، ما أدى إلى تراجع الزراعة، بالإضافة إلى زيادة نسبة العواصف الرملية والترابية والكوارث الناجمة عنها.
محافظة منكوبة
في المقابل، أعلن مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الانسان في البصرة مهدي التميمي لـ( المسرى) أن” محافظة البصرة تعتبر من حيث مشكلة ملوحة المياه، محافظة منكوبة، ومن الدرجة الأولى” مشيراً إلى ان ” كل الحلول التي جاءت بها الحكومة لغاية اليوم لمعالجة ملف الملوحة في المحافظة، تعد حلول غير مجدية ولا ترقى لمستوى الحلول الحقيقية لمصيبة ملوحة مياه البصرة الخانقة، مضيفا ان وزارة الموارد المائية وبعد زيارتها للبصرة أعلنت أن مياه شط العرب ستخرج عن السيطرة في قادم الأيام، في حين أن مياه شط العرب هو بالأساس خارج السيطرة”.
تلوث كيمياوي وجرثومي
ولفت التميمي إلى أن ” نسبة التلوث الكيمياوي والجرثومي في المياه المذكورة، هي نسبة عالية جداً تنهي الحياة في شط العرب نهائياً، والدليل نقوق عشرات الآلاف من الأسماك والأحياء التي تعيش في مياه شط العرب نفقت ، ولا تزال”، داعياً كل المسؤولين والمعنيين بهذا الملف الحيوي، الإسراع بإيجاد حل لمعالجة مشكلة ملوحة المياه”، منوهاً أن ” الحل الوحيد يكمن بإنشاء محطات عملاقة لتحلية المياه، وبخلافه خلال سنتين إلى ثلاث سنوات ليس مستبعداً أن تحدث حالات وفاة من جراء التسمم بمياه شط العرب، وبأعداد كبيرة جداً في المحافظة”.
وتابع التميمي أن ” مياه مدينتي الفاو والسيبة التابعتين لمحافظة البصرة، مياه بحرية مالحة، ووصلت نسبة ملوحة المياه في مركز المدينة لحدود 11 ألف TDS، وهذا الرقم مرتفع جداً حتى على الحيوانات والبناء”، محملاً الحكومتين المركزية والمحلية كل ما يتعرض له أكثر من 4 ملايين مواطن بصري من الموت البطيء حالياً والموت السريع مستقبلاً.
مد ملحي كبير
أما معاون مدير مديرية الموارد المائية في البصرة طالب علي فأوضح لـ( المسرى) أن ” مديريتهم مستمرة بمتابعة التصاريف الواردة من نهر دجلة عند ناظم قلعة صالح بإتجاه شط العرب، حيث وصلت التصاريف بحدود 100 متر مكعب في الثانية، وهو بحد ذاته يعتبر تصريفاً عالياً، ومع هذا هناك ارتفاع للمد الملحي في الأيام الماضية، وعليه استطاعت الدائرة من الحفاظ على التراكيز الملحية في شط العرب ومقدم القناة الإروائية والتي تستفاد منها مجمعات الماء، بحدود لا تتجاوز الـ 2000 TDS “، مشدداً على استمرار دائرتهم عن طريق اللجان المختصة وبالتعاون مع لجان الهيئة والوزارة بمتابعة التصاريف المائية”، لافتاً إلى أنه” بسبب الظروف المناخية وارتفاع المد الملحي بصورة كبيرة كلها اجتمعت وأثرت على مياه شط العرب، وما إجراءاتهم المتبعة تدخل في خانة الحد من ارتفاع الأملاح ضمن الحدود المقبولة”.
تشخيص الأسباب
وتابع معاون مدير مديرية الموارد المائية في البصرة أن ” إغلاق نهر الكارون والأحوازات من قبل الجانب الإيراني، تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع نسبة الملوحة في المياه، وكذلك تصاريف مياه المجاري، هي الأخرى إحدى أسباب ملوحة شط العرب”.
مياه الخليج
ويمر شط العرب على طول 200 كيلومتر بمحافظة البصرة جنوبي العراق، وان انخفاض مستوى مياه الشط أدى الى امتداد مياه الخليج العربي المالح اليه، ما زاد من نسبة الملوحة فيه لدرجة عالية، ما دفع سكان المحافظة الى ترك مياه الانابيب وشراء المياه المعدنية المعبئة في القناني لغرض الشرب.