الكاتب.. جاسم الصفار
جاء مشروع قانون (حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي) ليرسم ضفاف ضيقة للحريات العامة ويعطي رؤية مبهمة تقبل تفسيرات وتأويلات تقلب رأساً على عقب مفاهيم الحرية والحقوق الفردية والاجتماعية والعدالة والمساواة وتعزّز غطرسة وهيمنة سلطة المحاصصة الإثنية والطائفية وتقاليدها ومفاهيمها وأخلاقياتها.
ويثير مشروع القانون الكثير من التساؤلات وينجرف نحو محاذير لابد من التوقف عندها مليّاً، فنحن أمام قانون هو عن حق، من أكثر القوانين خطورة على تطور النظام الديمقراطي في العراق والذي يجب أن تشكل الحرية والعدالة والمساواة روحه وأساسه.
لست في صدد دراسة قانونية لمشروع القانون إلا أنه لابد من الإشارة الى ما جاء في بعض مواده مثل تفسيره في المادة الأولى، بأن حرية التعبير عن الرأي تشمل حصراً حرية (المواطن)، أي الذي يحمل الجنسية العراقية، وبالتالي فمشروع القانون يتجاوز حرية (غير المواطنين) من ابناء الجاليات الأخرى في العراق في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وهذا اضافة لكونه تجاوزاً صريحاً لمفهوم الديمقراطية الواسع فإنه يخالف الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والأعراف الديمقراطية العالمية.
أما بالنسبة للصياغة الواردة في المادة 1 أولاً- حرية التعبير عن الرأي (بما لايخل بالنظام العام والآداب العامة) فإنها اضافة الى كونها مبهمة وفضفاضة، بغياب تفسير محدد لمفهوم الآداب العامة والنظام العام، فهي قابلة للتأويل بحسب مزاج المشرّع، الذي لا يميل اليوم إلا لصالح تقييد الحريات الشخصية والعامة.
كما أن المادة 1 ثانياً – “حق المعرفة، حق المواطن في الحصول على المعلومات التي يبتغيها من الجهات الرسمية وفق القانون وخاصة المعلومات المتعلقة بأعمالها ومضمون أيّ قرار أو سياسة تخصّ الجمهور”، فهي تكرار مبتور لقرار الأمم المتحدة 59 بهذا الشأن كونها لم تؤكد جانباً مهماً في هذا الحق، وهو عدم اقتصاره على الحصول على المعلومة وإنما يتعدى ذلك الى حرية التصرف بالمعلومة.
في الفصل الثاني من مشروع القانون (حرية التعبير عن الرأي) المادة 3 أولاً، لم يجر إلزام الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة، انشاء قاعدة بيانات مفتوحة ليتمكن الجمهور من الاطلاع عليها، وتركت خيار انشاء قاعدة البيانات للوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة، كما خيّرتها كذلك بنشر المعلومات عن سير أعمالها. وهذا بحد ذاته تسويفٌ لحرية التعبير عن الرأي. وفي نص المادة 7- ببنودها الأربعة التي تربط حق الاجتماع العام بالحصول على اذن مسبق يتضمن معلومات تفصيلية عن الاجتماع واسماء منظميه وما الى ذلك من مسؤوليات تلقيها السلطة التنفيذية على المنظمين للاجتماع، فإنها، من وجهة نظرنا، تشكّل قيداً على الحريات وسيطرةً للحكومة وتلميحاً لمنظمي الاجتماع بالمساءلة. فليس من حق السلطات أن تقبل أو لا تقبل بخروج تظاهرات، وهي مجبرةٌ على تأمين الحماية لها فقط لا غير بعد اشعارها بموعد ومكان التظاهرات. تنص المادة 9 من مشروع القانون على حظر “عقد الاجتماعات العامة في أماكن العبادة أو المدارس أو الجامعات أو دوائر الدولة، الا اذا كانت المحاضرة أو المناقشة التي يعقد الاجتماع من اجلها تتعلق بغرض مما خصّصت له تلك الأماكن”. وربما فات المشرّع العراقي أن دور العبادة اصبحت تقليدياً، أماكن للاجتماعات العامة وإلقاء الخطب في الشؤون الدينية والسياسية، واذا تجاوزنا مساجد براثا والكاظمية والعديد من المساجد المسيّسة أصلاً في بغداد، فإن منابر مساجد النجف وكربلاء اصبحت منابر اعلامية سياسية بامتياز، منها نعرف مواقف المرجعية ورموز الحوزة الدينية في النجف الأشرف من القضايا الدنيوية والسياسية بصورة خاصة.
من الضروري بالتأكيد، ولا أرى في ذلك مثلباً، حصر مهام دور العبادة بشؤون عبادة الله وأداء الواجبات والشعائر الدينية، ولكن تغيير واقع هذه المؤسسة الدينية يفترض أولاً منع اقحام الدين في السياسة وإجراء تغييرات جذرية في صلب النظام السياسي تمنع فيه زج الشأن الديني والمذهبي في النشاط السياسي. وأن يعي الجميع خطورة هذا المنزلق الخطير الذي انتج فكر ومؤسسات الإرهاب وجعل الخطبة التأسيسية للدولة الاسلامية (داعش) تنطلق على لسان ابو بكر البغدادي من جامع النوري في الموصل.
أما نص العبارة الأخيرة في المادة 9 عن المدارس والجامعات ودوائر الدولة، فهي قابلة للتأويل ولتسويف الحظر الذي جاء في صدر المادة. فكل اجتماع سياسي في تلك الأماكن يمكن ان يلبَس بمسوِغ يخرجه من الحظر كإيلاء الاهتمام ولو لفظاً بتلك المؤسسات والدوائر الرسمية كما حصل في الشهرين الأخيرين عند زيارة رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي لجامعة واسط وبعدها زيارة الشيخ قيس الخزعلي لجامعة القادسية وما تبع الزيارتين من أعمال احتجاجية وفوضى في الجامعتين.
الواقع هو أن الجامعات قد اصبحت مراكز للنشاطات الدينية والمذهبية، يتسابق في انشطتها الاساتذة والطلبة مدعومين من رؤساء الجامعات والعمداء، وتقدم كل التسهيلات اللوجستية لإقامة ندوات في قاعات الكليات إحياءً لمناسبات جلها ذات صبغة دينية طائفية. ونتيجة لسياق عمل الجامعات في هذا الاتجاه، خلقت مناخات انتقائية في التعبير عن الرأي ترجّح دعاية تنتقص من حقوق الانسان المدنية في الجامعات العراقية وتحاكم الطالب في ملبسه وتصرفه ورأيه حتى وإن لم يكن في ذلك أيّ ضرر أو إساءة للآخرين، انها اخلاق وأعراف الطرف السائد دينياً ومذهبياً والقائم على أساس فتاوى التمييز والغاء الآخر.
المادة 13- ثالثاً- تنصّ على عقوبات تصل الى سنة وغرامات مالية تصل الى عشرة ملايين لكل من “ أهان علناً نسكاً أو رمزاً أو شخصاً موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية”، دون أن يحدّد المشَرع أي تفسير لأي من المصطلحات المذكورة في النص، وهذا ما يجعل النص تحت رحمة من يؤوله ليجعل من أيّ شخصية كانت (موضع احترام لدى طائفة دينية) يعاقب من ينتقدها (والفرق ليس كبيراً عندنا بين معنى الإهانة ومعنى النقد) بالحبس والغرامة المالية.
لذا، فحسب ما نشرته وسائل الإعلام، طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش ومقرها نيويورك، في وقت سابق، مجلس النواب بعدم تمرير مسوَدة “قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي”، واصفة إياه بأنه “يجرِّم حرية التعبير ويضيِّق على الحريات ويخرق القانون الدولي”. مضيفةً، أن “الاحكام القانونية الواردة فيه وكذلك التجريم المقترح لحرية التعبير الذي يتناول إهانة الرموز المقدسة أو الأشخاص، يخرق بوضوح القانون الدولي”، وخلصت المنظمة في بيانها الى أن مشروع قانون حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي “يقوّض حق العراقيين في التظاهر والتعبير عن أنفسهم بحرية”. وأخيراً.. فإن مشروع القانون الذي حمل اسم حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي بالتماهي مع الفقرة (ثالثاً) من المادة (38) من الدستور العراقي الصادر عام 2005، والتي بمجملها تتحدث عن كفالة حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل إضافة الى كفالة حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي، جاء على قاعدة “نعم ولكن”، أيّ الموافقة على نص الدستور شكلاً وتكبيله بمقيّدات تمنع اطلاق معاني الحرية والعدالة والمساواة في مضامينه.
نقلا عن صحيفة المدى