المسرى .. متابعات
حاول لحظتها بيديه ورجليه الإمساك بشيء، لكن دون جدوى ، حين اختل توازنه وهوى من الأعلى ، هكذا يصف عامل نصب السلالم رأفت مهنا حسام (26 سنة)، سقوط رفيق طفولته وزميله في العمل محمود حسن (25 سنة) من ارتفاع 22 متراً ليفقد حياته على الفور.
كانا يعملان على تركيب السلالم الخارجية لتغليف المنارة الثانية للجامع الكبير في مدينة الموصل بحجر الحلان.
كان هذا في حزيران يونيو 2021 ونحن كما غيرنا من العمال في مختلف صنوف البناء لا نستخدم أية وسائل أمان”. يروي رأفت بنبرة لوم، ثم يضيف بحزن “كان يومها سعيداً ومرحاً وكان يمازحني بلطافة كبيرة كما تعود دائما وهو يحكي قصصا ومواقف مرت بنا”.
الضمان الاجتماعي هو برنامج حماية اجتماعية نظمت له قوانين خاصة، تتعلق بتوفير الأمن المالي للفرد في حال وصوله لسن الشيخوخة أو العجز والإعاقة فضلا عن الطرد من العمل أو تركه. وتنص بعض الدول في قوانينها وتشريعاتها إلى إجبار مواطنيها على التسجيل بشبكات الحماية الاجتماعية.
وتم إقرار هذا الحق وإدراجه ضمن الحقوق الاساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رقم 22 إذ ينص على أن “لكل شخص حق في الضمان الاجتماعي”، ومن حقه أن يوفر له الضمان من خلال “المجهود القومي والتعاون الدولي بما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها”.
في الحالة العراقية فتنص القوانين على أن يحصل العامل على أجر يكفي لسد حاجته الأساسية يمكّنه من إعالة اسرته وحماية أجره على نحو يكفل عدم اقتطاع اي جزء منه كما جاء في المادة (4) من قانون العمل رقم (71) لسنة 1987.
المئات من حوادث العمل تعرض لها عمال من نينوى خلال السنوات المنصرمة، فقدوا بأثرها حياتهم أو تعرضوا لإصابات بليغة، دون أن يحصلوا هم إن بقوا أحياء أو ذووهم إن توفوا على تعويضات لعدم إبرامهم عقود تنظم عملهم مع أرباب أعمالهم أفراداً أو شركات، ولا حتى أي ضمان رسمي يمنح لهم حقوقاً في حالات الموت والمرض والعجز والطرد من العمل وغيرها.
وأظهرت دراسة أعدتها دائرة التخطيط في محافظة نينوى التابعة لوزارة التخطيط سنة 2021 أن 96% من العمال في القطاع الخاص، يعملون بلا ضمان اجتماعي، لذا لن يكون لديهم استحقاق تقاعدي عند وصولهم للسن القانونية للتقاعد(60 للرجال و55 للنساء أو خدمة تصل إلى 20 سنة) كما أن 95%منهم يعملون بدون ضمان صحي.
الدراسة شملت الفئات العمرية بين 10-30 سنة من العاملين، على مستوى العراق، بما فيها نينوى، وتبين أن 19% منهم فقط يعملون في القطاع الحكومي و81% يعملون في القطاع الخاص.
مدير إحصاء نينوى نوفل سليمان يشير إلى أن واقع الشباب في القطاع الخاص “لا يجري بالصورة المطلوبة إذ أن 85% منهم على الأقل لا يعملون بعقد عمل على مستوى العراق، والنسبة ترتفع في نينوى لتصل إلى 93%”.
والأسباب الأخرى تتعلق بالعمال أنفسهم، العديد منهم يجهلون تماماً ماذا يعني الضمان الاجتماعي وماهي الجهة التي ينبغي أن يسجلوا معلوماتهم لديها، وهم غير مسجلين في نقابة العمال ولا يعرفون شيئاً عن مهامها ولا حتى موقعها والقاسم المشترك بينهم جميعاً هو عدم الثقة بوجود ضمان لحقوقهم.
إجراءات السلامة
يضطر معظم عمال البناء في نينوى وبمختلف تخصصاتهم، إلى ممارسة أعمالهم وهم على ارتفاعات، تكون عالية في بعض الأحيان، ما يعرضهم لخطر السقوط، خصوصاً وأن الغالبية الساحقة منهم لا يتخذون اجراءات للسلامة.
وما يثير الاستغراب، أن بعضهم ممن توفر لهم القدرة لشرائها، يرفضون استخدامها بزعم أنها ثقيلة وتعيق عملهم أو يتحججون بارتفاع درجات الحرارة خصوصاً في أشهر الصيف التي ينشط فيها البناء في العادة، لكن الحال يختلف لدى شركات البناء، فعلى قلتها، إلا أنها تلزم العامل بإجراءات السلامة خوفاً من المسؤولية التي قد تتعرض لها بسبب العقود التي تبرمها مع العمال.
مثلا في قضاء الحمدانية شرق الموصل، تعين على قاسم فارس (28 سنة) أن يلف جذعه وأطرافه بحزام برتقالي اللون مكون من ثلاثة أجزاء، مع خوذة غطت رأسه وقفازين سميكين في يديه، ليرتقي برجاً خاصا بالأنترنيت بارتفاع 26 متراً ليُركب في أعلاه كاميرا مراقبة.
يقول قاسم بأنه يطيع أوامر الشركة ويرتدي ما يضمن سلامته، يبتسم ويضيف: “سأعرض نفسي للعقوبة التي تصل إلى الطرد من العمل إذا خالفت الأوامر”.
رعد إسماعيل البدراني مدير قسم تقاعد وضمان نينوى، يؤكد على أهمية الضمان الاجتماعي لحياة الإنسان، فهو يعني وفقاً لما يذكر: “ضماناً للعائلة لأن أفرادها سيحصلون على حقوق تقاعدية في حالة وفاة رب الأسرة العامل أو تعرضه لإصابة تعيقه عن العمل، وبكل الأحوال سيكون مضموناً لدى الدولة ولا فرق بينه وبين الموظف لديها في هذه الحالة”.
تهرب الشركات وأرباب العمل من تسجيل العمال لديهم أمر شائع جدا، فخلال جولة صغيرة في مئات من حقول الدواجن والمجازر ومفاقس البيض ومعامل الأعلاف والمخازن المنتشرة في سهل نينوى شرق الموصل، يظهر وجود آلاف العمال النشطين، لكن في حال تدقيق استمارات هذه المشاريع لدى دائرة الضمان الاجتماعي، يتضح أن هنالك عاملا واحدا أو اثنين على الأكثر مسجلين في كل مشروع وتدفع عنهم الرسوم، في حين لا أثر لباقي العمال.
ويعلق المشاور القانوني المتخصص في قطاع شركات الإنتاج الحيواني توما جرجيس، قائلا إن دائرة الضمان الاجتماعي بما تضمه من موظفين وإدارة ووزارة يعلمون علم اليقين بأن كافة المشاريع لا تقدم بيانات دقيقة بشأن أعداد العمال العاملين لديها، وذلك للتهرب من تسديد ما يترتب على تسجيلهم من رسوم شهرية.
أجور متدنية
وهنالك من يدعو إلى احتساب رسوم تسجيل العمال ضمن الرواتب أو الأجور التي يتقاضونها لكي يقوموا هم أنفسهم بتسجيل أسمائهم لدى الضمان الاجتماعي ودفع ما يترتب على ذلك من رسوم، لكن هذه الدعوة، تصطدم بتدني أجور العمال، وتفاوتها وفقاً لأمزجة أرباب العمل وقناعاتهم.
وكان مجلس الوزراء قد قدم في 28 كانون الأول ديسمبر2017 توصية إلى لجنة العمل البرلمانية لتحديد الحد الأدنى لأجر العامل بـ 350 الف دينار شهرياً حوالي (236 دولاراً) بدلاً من 250 الف دينار أي حوالي (168دولار) الذي كان قد حدد في القرار 178 لسنة 2013.
عملياً فلا أثر واضح حتى بالنسبة للقرار الذي كان قد صدر في 2013، إذ ان معظم العمال غير المهرة، يتلقون أجوراً أقل من 250 ألف دينار شهرياً، فالأجر الذي يتلقاه العامل (غير الماهر) في اليوم الواحد يتراوح بين 7 -10 ألف دينار، حوالي 4-6 دولار، مع مراعاة أنه لا يعمل بنحو يومي أو ثابت.
وأثار إعلان وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، الإثنين الماضي، تحديد الحد الأدنى للأجور ضمن قانون الضمان الاجتماعي المزمع إقراره في البرلمان، الحديث عن حقوق العمال في العراق.