المسرى . هناء رياض
الفساد في العراق آفة تنخر في عضد الدولة ، وكلما أتسعت الجهود لمحاولة القضاء عليه اتضحت الرؤية بأنه اكبر منها ، وبأن الضالعين فيه غالباً جهات تمثل مفاصل حكومية وسيادية واحزاب فاعلة ، وهذا ما بدا واضحاً حتى اليوم في جرد سريع لهيئة النزاهة ، التي اكدت ان مايقارب تسعين أمر استقدام قضائي بحق ذوي الدرجات العليا صدر خلال شهر شباط الماضي فقط ، ماجعل العراق وعلى مدى سنوات عدة يحتل الصدارة في نسب الفساد نسبة الى الاحصائيات الصادرة عن المنظمات العالمية المعنية بشؤون النزاهة ومكافحة الفساد المالي والإداري، كما ويصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، إذ احتل المرتبة 157 عالميا بين 180 دولة ضمن مؤشرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2021، مما يؤكد أن البلاد تعاني من مشكلة متفاقمة دون أن تحدد المنظمة أرقاما دقيقة لحجم الفساد في البلاد.
الحكومة تعترف بالفساد ولاتقوى على مكافحته
هذا ولا ينكر المسؤولون العراقيون وجود فساد مستشر في الدولة، إذ إن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي كان قد كشف في سبتمبر/أيلول 2014 عن وجود نحو 50 ألف موظف وجندي في وزارة الدفاع العراقية يتلقون رواتبهم دون أن يكون لهم وجود على أرض الواقع، أما في أغسطس/آب 2015 فكشف عادل عبد المهدي الذي كان يشغل حينها منصب وزير النفط أن الموازنات العراقية منذ 2003 ولغاية 2015 بلغت 850 ملیار دولار، وأن الفساد في العراق أهدر 450 ملیار دولار، مضيفا أن استغلال المناصب من جانب المسؤولين لمصالح خاصة كلف الدولة 25 ملیار دولار، وفي سبتمبر/أيلول 2021، كشف رئيس الجمهورية السابق برهم صالح -في مقابلة متلفزة- أن أموال العراق المتأتية من النفط منذ 2003 تصل لنحو ألف مليار دولار، لافتا إلى أن التقديرات تشير إلى أن الأموال المنهوبة من العراق إلى الخارج تقدر بنحو 150 مليار دولار، مشددا على أن العراق يعمل على استعادتها من خلال مطالبته العالم بتشكيل تحالف دولي لمكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة.
الامم المتحدة تراقب والعراق يصارع
ولا يمكن ان ينسى العراقييون مرارة التقرير الذي رفعته مندوبة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت في تشرين الثاني من العام الماضي ، والذي قدمته المسؤولة الأممية أمام مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الدوري لمناقشة الوضع في العراق ، مشددة فيه على إن الطبقة السياسية والحاكمة في بغداد فشلت حتى الآن في وضع المصلحة الوطنية فوق أي شيء آخر، مضيفة أن “الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي في العراق، وهو جزء من المعاملات اليومية، ولست أنا من يقول هذا فقط، إن ذلك أمر معترف به”. كما تحدثت عن قطاع حكومي غير فاعل متضخم يخدم الساسة لا الناس، وقالت: “إن المصالح الحزبية والخاصة تُبعد الموارد عن استثمارات مهمة في التنمية الوطنية”.
المحاصصة اهم اسباب الفساد في العراق
ويرى البعض ان المشكلة الاساسية التي ادت الى استشراء الفساد في العراق هي نظام المحاصصة المتبع في البرلمان والحكومة وايجاد تفاهمات تضمن عدم محاسبة المفسدين من أي طرف لأنه يعرض المفسدين من الأطراف الاخرى للمساءلة ايضاً ، وهذا ما اوضحه واكده ايضاً مستشار رئاسة الوزراء مظهر محمد صالح ، عبر تصريح صحفي سابق ، اطلعت عليه المسرى ، والذي قال: ان الحديث عن الفساد لايشكل خبراً جديداً لدى العراقيين والكل يعرف مدى انتشاره ، عازيا الفساد الاقتصادي السياسي إلى تركيبة النظام السياسي التي تعتمد المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومات، وتابع صالح أن المحاصصة المعتمدة في البلاد تتطلب تنازلات من قبل الجميع في سبيل استمرار العملية السياسية بما يحمل الدولة تكاليف باهظة. ويضرب صالح مثالا على الفساد السياسي الاقتصادي في البلاد بالحصول على الجوازات الدبلوماسية التي وصل عددها إلى نحو 25 ألف جواز دبلوماسي، ولم يحدد حجم الفساد في البلاد بسبب تنوع أبواب الفساد، ما بين الفساد المالي المباشر والرشى والسرقات، وصولا إلى الفساد الإداري الذي يبدد الأموال، بحسب تعبيره.
مكافحة الفساد في حكومة السوداني
وكما عمدت الحكومات السابقة في العراق عن اعلانها أكثر من مرة بأن ملف القضاء على الفساد يشكل أهم اولوياتها ضمن البرنامج الحكومي ، فأن حكومة السوداني لم تشذ عن هذه القاعدة ، وجاءت تحمل ذات الهدف بشعار آخر ، فالسوداني وبعبارة ( جائحة الفساد الذي يهدد أمن الدولة ) عبر عن عزمه في القضاء على منابع الفساد في العراق ، خصوصاً ان حكومته بدأت رحلتها بملاحقة المتورطين فيما يعرف ب ( سرقة القرن ) والمتضمنة سرقة الامانات الضريبية بمقدار 2,5 مليار دولار، والتي تشكل أغلب رصيد أمانات هيئة الضرائب العامة في حسابها بمصرف الرافدين الحكومي الذي تشرف عليه وزارة المالية العراقية ، الا ان خروج المتهم الاول في القضية ( نور زهير ) من خلف قضبان الحبس بكفالة مالية بدد الآمال التي عقدها المواطنون على حكومة السوداني في محاربة الفساد بشكل فعلي ، خصوصاً وان خيوط القضية تمت لملمتها بعد اصدار افراج من السلطات بكفالة، عن المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء السابق هيثم الجبوري وهو المتهم الثاني في القضية ذاتها، وقالت مصادر إن الإفراج جاء بعدما أعاد الجبوري جزءاً من الأموال وتعهد بإعادة ما تبقى في ذمته من أموال خلال الأيام المقبلة.
السوداني .. العين بصيرة واليد قصيرة
في غضون ذلك، ترى العديد من الأوساط السياسية والاقتصادية في العراق أن طموحات السوداني بمحاربة الفساد تقف أمامها العديد من المطبات السياسية والاقتصادية في آن معا، فرغم أن السوداني يحظى بتأييد برلماني يزيد على 250 نائبا (من مجموع 329 نائبا في البرلمان) صوتوا لصالح توليه منصبه فإن هؤلاء النواب يتبعون كتلا سياسية وإن التحرك ضد الفساد قد يضر مصالحهم.
وجاء في تقرير لموقع المونيتور الامريكي نهاية العام الماضي 2022 ، بأن السوداني محكوم بأسباب ثلاثة رئيسة لمحاربة الفساد في العراق ، واوضحت ان
السبب الأول متمثل بمسعى رئيس الحكومة الجديد إلى الحفاظ على المساندة الدولية التي تلقاها بعد تشكيل حكومته، فالسوداني يدرك أنه ليس بمقدوره الحفاظ على الدعم الدولي ما لم يتعامل مع الفساد ويحاسب قضائيا السياسيين الأكثر فسادا.
أما حول السبب الثاني، فقد أوضح التقرير انه يتمثل بحاجة السوداني إلى أن يقدم نتائج ملموسة وسريعة من اجل كسب الشعب العراقي، وهو محتاج ايضا الى بناء قاعدة شعبية قبل انتخابات المحافظات المقررة في العام المقبل والانتخابات البرلمانية المفترضة بعد ثلاث سنوات، أو ربما حتى قبل ذلك.
وثالثا، ذكر التقرير ان السوداني يريد أن يطمئن السلطة الشيعية الاعلى في النجف والممثلة بالمرجع الديني السيد علي السيستاني، الى جانب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، مشيرا الى انهما التزما الصمت حتى الآن.
تعددت الانواع والفساد واحد
قد لا يكون الفساد في العراق على وجه واحد، وقد تتعدد أنواعه، وهو ما يشير إليه أستاذ العلوم السياسية بجامعة جيهان مهند الجنابي، في حوار صحفي ، تابعته المسرى ، إذ حدد الجنابي ثلاثة أنواع من الفساد تتمثل بالفساد الشائع الذي يشمل الرشاوى لدى صغار الموظفين، حيث يمكن معالجته بالأنظمة والتعليمات وضبط عمل مؤسسات الدولة.
أما الثاني فيتضمن ما وصفه الجنابي بـ”الفساد المقاوم للتعليمات”، وهو ذلك المعتمد على الشبكات التي تدخل فيها المصالح الخاصة التي تربط قوى سياسية بمؤسسات حكومية، إذ إن هذا النوع لا يمكن معالجته بالأنظمة والتعليمات، وهو ما يتطلب رقابة حكومية صارمة، على حد قوله.
فيما يصف الجنابي النوع الثالث بـ”الفساد المستوطن”، وهو الذي يساوي الإرهاب في خطورته على الدولة، وأوضح أن هذا النوع يقف ضد مؤسسات الدولة والقوانين ومختلف الجهات الحكومية، مستعينا بالتخادم بين الأحزاب ومعتمدا على القوة المسلحة واختراق مفاصل الدولة بمختلف مستوياتها