رحلة في رحاب فن المقالة الصحفیة
د. ژینۆ عبد الله
عندما يكون لدي وقت فراغ، أحاول الذهاب إلى مكتبتي بغیة النظر في رفوفها والبحث عن الكتب التي لم أقرأها بعد. ففي هذه الأيام، أقرأ الكتب التي تستحق القراءة وخاصة تلك التي أستشرف فیها مواضیع تمت لواقعنا الحالي بصلة وثیقة بالنظر إلی العناوین الموجودة في محتویاتها الواعدة بفصاحة البیان وثراء اللغة وقوة التعابیر و وجهات نظر کتابها التي تستشرف المستقبل القریب منه والبعید.
ومن تلك الکتب التي حظیت بالوقت الکافي لقراءتها، کتاب بعنوان (أسئلة الزمن الصعب) للسياسي والصحفي المخضرم فرياد رواندوزي والذي هو أحد منشورات دار لارسا للطباعة والنشر والتوزيع لعام 2018. فالکتاب بالأساس عبارة عن مجموعة مقالات (العمود الصحفي) للأعوام مابين (1994-1998) نشرت في صحيفة الاتحاد باسم “إبن بلدي”.
وکانت قراءة الکتاب بمثابة جولة ممتعة في رحاب المواضیع المنشورة في العمود المخصص لتلك المقالات البالغ عدده 130 عمودا صحفیا، جسّد فيهم کاتبنا المرموق جل مقومات هذا الفن الصحفي الذي يعتبره أنيس منصور من أصعب الفنون الصحفية. فقد اطلعت في المقالات المقروءة إلی رشاقة الكلمات وبلاغة الدلالات وقوتها. فضلا عن التفکیر النقدي الجريء والبناء المقترن بجمالیة جلیة في تراكيب الجمل الغنیة بالأفكار والرؤى والصراحة في مخاطبة السلطة والحزب لبیان واقع الحال الذي یستوجب منا جمیعا شحذ الهمم لتغییره إلی واقع أفضل، کل حسب مقدرته وإن لم یکن بمقدور المرء سوی کتابة کلمات ونشرها في ثنایا الصحف والجرائد الجدیة کي یناشد بها صناع القرار وإبلاغ القاصِي والدَّاني بمجریات الأمور کتذکرة لمن کانت بیده مفاتیح الأمور.
فعندما قرأت هذه المقالات وجدتها وكأنها تتحدث عن واقعنا المریر في الوقت الراهن وخاصة قدر تعلق الأمر بآفة الفساد التي باتت مصیبة عظیمة تنخر البلد بالطول والعرض بالإضافة الی المحسوبية وظواهر أخری تفتك ببنیة البلد توؤد آمال المواطنین البسطاء وتطلعات المثقفین وجهود الخیریین الساعین إلی وضع حلول للمشاكل المزمنة في مجتمعنا.
يعتقد د. محمد يوسف نجم (1925-2009) أنه “لا يعطى العمود الصحفي إلا لصحفي على درجة كبيرة من النضج والخبرة والأهمية والنفوذ وقوة التأثير والحضور. ويجب أن يكون كاتب العمود الصحفي صاحب رؤية وفكر وموقف كما يجب أن يكون لديه جمهور معني بمعرفة هذه الرؤية أوهذه الأفكار والمواقف”.
فمشكلة الذين يكتبون بلغة الضاد، من غير الناطقين بها، هي أن القاریء یجد من خلال الأسلوب واللغة المکتوبة بأن الکاتب غير عربي. وكثير من الذين يكتبون المقالات مع الأسف لا یستوفون شروط فن العمود الصحفي من حيث العنوان والموضوع و بالتالي یمكن أن نسمي ما یکتبونه إنشاء. وبالنقيض من ذلك هناك كتاب تتسم مقالاتهم بالمعلومات والشروط الواجب توفرها الأمر الذي ینتج عنه مستوی رفيع من الکتابة حيث إذا قرأت أول موضوع من الكتاب وهو بعنوان “يوم المحبة” لاتترك الكتاب حتى آخر مقالة بالكتاب (جوانب على سؤال تزوجت ئاشتي؟).
يقول مصطفى أمين (1914-1997)، يجب أن يكون فن المقال بجميع أنواعه بما فيه العمود الصحفي مثل الخبر، به معلومات وروئ وطرح ومعالجة لجميع قضايا الساعة أي أنه یحیط القراء علما بكل نواحي الحياة وأن تکون فیه کافة الشروط متوفرة وخاصة القاعدة الذهبية “ما قل ودل” بمعنی أكبر كمية من المعاني بأقل الكلمات.
وأجمل ما في الكتاب هو مقدمة الأديب والصحفي الكبير المرحوم الاستاذ مصطفی صالح كريم باسم “السؤال الذي حير القراء” حیث يرشد القارئ بتعريف بسيط للمؤلف وبعض حيثيات كتابة العمود الصحفي والمتاعب والمشاكل التي ترافقه نتيجة الجرأة والرٶیة الواضحة لرواندزي.
وفي الختام، راودني سؤال حيرني لمعرفة ما هي أسباب توقف الکاتب عن كتابة المقالات والعمل الصحفي. فلمن لايعرفه خاصة من الجيل الجديد، فإن الاستاذ فرياد رواندزي إضافة إلی أنه من منضالي الاتحاد الوطني، أصبح عقب تغییر النظام في العراق في نیسان 2003 قريبا جدا من الرئيس الراحل مام جلال و کانت له بصمة في تكوين المشهد الساسي الجدید و قد عملت معه شخصیا عندما كنت أعمل بصحيفة كوردستاني نوی، وکان هو أول من يخبرنا بما یستجد من أخبار وأحداث و یرسم لنا خارطة إسترشادیة لخفایا الأمور کي نقوم بصیاغتها صیاغة مهنیة وبلیغة للقراء.
وحتى عندما سئل الرئيس مام جلال في إحدى لقائاته عن متی يكتب ذكرياته أجاب قائلا “أوصيتُ فرياد رواندزي بجمع المعلومات ومساعدتي بالشروع في رحلة كتابة مذكراتي”.
وفي هذە الإجابة المقتضبة للرئیس الراحل تتبین لنا مکانة رواندزي کصحفي من طراز رفیع وذي خبرة طویلة في الکتابة باللغتین الكردية والعربیة. کما یعرف بأنه سياسي بارع. فأرجو منه الاستمرارية بالكتابة في المجال الصحفي وأرجو لە التوفیق في قادم الأیام لاسیما وهو بصدد كتابة مذكراته.